"قشطة = جيد" و"كبّر، نفّض = تجاهل"، في مصر، و"سَلِتْ = اهرب متخفيًا" و"سَلِّكْ = مررها" في المغرب، وفي السعودية: "هوّينا = اتركنا" و"أروح شُربة = أذوب". كل هذه ألفاظ وعبارات ترسم ملامح وضع لغوي لدى جيل بأكلمه، ربما يستهجنها الآباء والأجداد، وربما يغفل البعض عن التعليق عليها، لكن لا شك أنها واقع بدأ يؤسس لدلالات خطيرة على المجتمع، أقلها ضياع الهوية، وأعلاها التنكر للذات الحضارية. فإذا كان ثبات الموقف الثقافي لأي أمة يعتمد على قوة ثبات لغتها وقوتها، فما مدى مسئولية الأسرة؟ وأين يقع دورها في مواجهة التلوث اللغوي الشائع بين الأبناء؟ وهل من حلول تستطيع الأسرة الأخذ بها في مواجهة لغة العولمة وآثارها على أطفالها؟ الإحصاءات تؤكد أن الأسرة العربية هي الأكثر -عالميًّا- في الانبهار بلغات الغير، فما هي الخلفيات الحضارية للأزمة؟ وحتى متى تظل لغة الضاد في خلفية الصورة لدى الأطفال؟. معذورون ولكن.. على مستوى أرباب الأسر يقول صلاح جلال الدين -مهندس مدني- أنا حريص على تقوية اللغة العربية لدى أبنائي، لكن المشكلة أن ما نحاول نحن زرعه في أبنائنا تنتزعه باقي المؤسسات بطريقة غير مباشرة؛ فالمدرسة تتعامل مع ابني في تعليم النحو العربي بطريقة "أعرب ما تحته خط" دون أي عمق في تعليم القواعد، وباقي روافد الحياة مثل النادي ووسائل الإعلام وأسر أصدقاء الأبناء... كلها تلعب دورًا سلبيًّا تجاه المسألة. أما عبير محمد -ربة منزل وأم لثلاثة أبناء- فتؤكد أنها تعمل على تغيير انطباعات أبنائها السلبية التي يكتسبونها عن اللغة العربية، وتسعى من خلال تعميق روح التدين واكتشاف المواهب اللغوية إلى تنشئة أبنائها على حب اللغة العربية، وتقول: المشكلة أن بعض الأسر لا تدرك مدى خطورة "التشويه اللغوي" الناتج عن ثقافة العولمة ولا تعترف أن هناك مشكلة من الأساس. الأسرة.. فاعل ومفعول يرى الدكتور خالد فهمي -أستاذ اللغويات بآداب المنوفية بمصر- أن أسباب تراجع اللغة العربية عند الأطفال والمراهقين متعددة وذات جذور مختلفة، والأسرة ضمن تلك الأسباب هي فاعل ومفعول به في ذات الوقت، فعلى الرغم مما تواجهه الأسرة من تحديات في مسألة تقدم اللغة لدى أبنائها، إلا أنه لا شك أنها سلمت -بشكل نسبي- لموجات التهجين اللغوي والتشويه الثقافي الذي يجتاح عالمنا، فقليل من الأسر يُرتب لمواجهة هذه الموجات، وقد صار لدى الأسرة العربية إلحاق الابن بالمدارس الأجنبية حلمًا تسعد الأسرة لتحقيقه. والمشكلة أن الأزمة تتراكم عواملها، وكل جيل يسلم لمن يليه مجموعة من المخالفات والتأخر اللغوي الذي يورث زائدًا عليه مؤثرات باقي روافد الحياة، فالأسرة في مواجهة مع التلفزيون والمدرسة والنادي والشارع والأصدقاء الأجانب وغير ذلك من مضعِفات اللغة عند أبنائها، ولا شك أنها مواجهة صعبة، لكن لابد أن تتحرك الأسرة تجاه هذه المشكلة ولو تحركًا مبدئيًّا يدعو باقي المؤسسات للوقوف بجانبها. وفي مقدمتها مراقبة ما تجلبه لغة "الشات" على عقول أبنائنا. أما الدكتور قطب عبد العزيز -أستاذ النقد الأدبي بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا- فيؤكد أن الأسرة تشارك في إضعاف اللغة العربية لدى الأطفال باستخدام لغات أخرى حتى داخل البيت وأثناء الحديث مع الأولاد، اقتناعًا منها بأن هذا مظهر من مظاهر الوعي والتحضّر والتنشئة السليمة، وهي لا تدري بأنها بذلك تضع الطفل في موقف الحائر، مما ينتج عنه لغة هجين، بل مشوَّهة يستخدمها الأطفال. ويرى الدكتور قطب أن المشكلة ساعتها لا تصبح فقط ضعف الطفل في لغته الأم، بل إنها تلقي بظلالها على ثقافة الطفل ومدى انتمائه وتمسكه بهويته. كما يرى أن الأب والأم يمارسان أحيانًا لغتهما المهنية أو لغة عملهما في التعامل مع الأولاد، فنرى الأب الطبيب يُكثر من التحدث بالإنجليزية، والأم المهندسة كذلك، أو الأب مدرس اللغات يتحدث في البيت بلغة مهنته، ولهذا أثر عميق في إضعاف اللغة الأم عند الأطفال. الحضارات الأخرى وتغييب القرآن ويعجب الدكتور عوض القباري -أستاذ الأدب المصري بآداب القاهرة- من الأسر التي تنظر نظرة اعتزاز إلى لغات الحضارات الأخرى، ولا تأخذ منها سوى التشدق بمفرداتها، في الوقت الذي تحرص دول تلك الحضارات على لغتها حرصًا شديدًا، بل منها من يجرم -قانونًا- من يشرع في تعليم ابنه لغة غير لغته القومية قبل سن معينة. كما يؤكد القباري أن في فترة الازدهار الحضاري الإسلامي، كانت حركة الترجمة بين الشرق والغرب في قمة نشاطها، ولم ينزلق المسلمون وقتها هذا المنزلق الخطير. أما الدكتورة مي يوسف خليف -رئيسة قسم اللغة العربية بآداب القاهرة- فترى أن تحجيم دور القرآن في التعامل اللغوي من قِبَل الأسرة سبب رئيسي في ركاكة اللغة وضعفها لدى الأبناء، فاعتياد سماع الأطفال لمفردات القرآن وألفاظه يرصّن من لغتهم ويوفر عليهم صعوبة فهمه فيما بعد، فنجد أن الأطفال يستغربون ألفاظًا مثل "قسورة" و"ضيزى" و"وِزْر" وغيرها من الألفاظ بشدة، بل -وأحيانًا في مرحلة متقدمة- تقل رغبتهم في معرفة معانيها، وتتساءل "مي": كم من الآباء يجمع أبناءه في وقت محدد أسبوعيًّا لقراءة القرآن والوقوف على ألفاظه ومفرداته؟ وما مدى تعلق الطفل بالقرآن الكريم مقارنة بأجيال سابقة كان القرآن يشكل طبيعة لغتهم وثقافتهم؟ وتؤكد على أن الإجابة على مثل تلك الأسئلة تكون بالسلب؛ نظرًا لضعف ثقة الأبناء في لغتهم وقوتها، وتأخر المكانة الحضارية التي يرتادها المسلمون الآن، بدليل أن أبناء اللغات التي يتصدر أهلها الآن مكانة حضارية عالية أكثر تمسكًا بلغتهم واعتزازًا بها. حلول ممكنة ترى الدكتورة فيحاء عبد الهادي -أستاذة الأدب العربي بجامعة غزة- أن أمام الأسرة حلولا ممكنة لتلك المشكلة منها استغلال اهتمام الطفل العربي بالقصِّ؛ فالقص يحتل مكانة كبيرة في مرحلة الطفولة، حيث يستمع الطفل للحكاية بآذان مصغية وعيون مفتوحة، ودهشة غير محدودة يطلق خلالها العنان لخياله معبرًا عن توق فطري لدى الإنسان منذ نشأته إلى عالم سحري فيجب على الأسرة ألا تواجه الطفل حين يبدأ بالتساؤل خلال رحلته المعرفية، بسدٍّ من المعوقات ولغة ضعيفة تسهم في تراجع دور اللغة في تكوين شخصية الطفل، وتؤكد الدكتورة فيحاء أن اللغة من خلال القص من الممكن أن تأخذ أبعادًا أشمل وأوسع من كونها مفردات وألفاظًا، فنكوِّن من خلالها الشخصية ونصقل اتخاذ القرار ونعزز لدى الطفل هويته. أما الدكتور أحمد راغب -أستاذ الصوتيات بجامعة الملك سعود- فيرى أنه من الممكن أن نفعِّل المكنونات اللغوية داخل الأطفال عن طريق تنظيم نشاطات لغوية، يكون محتواها اللغة السهلة البسيطة، بعيدًا عن التقعر والتصعيب، مثل الحرص على إشراك الأبناء في مسابقات اللغة والقصة والرواية، بل وعمل مسابقات داخل الأسرة نفسها، وتهيئة جو لغوي سليم من خلال إحياء روح التنافس على الخطابة مثلاً أو الشعر بين الأبناء. ويرى أيضًا أنه لا بد من إنشاء علاقة صحية وإيجابية بين الأولاد وبين أعلام اللغة وروادها، فلا يصح أن ينشأ الطفل العربي ولا يعرف إلا القليل عن طه حسين أو العقاد أو شوقي ضيف، بل يجب على الأبوين الحرص على تعريف هؤلاء الأعلام للأبناء وربطهم بأعمالهم ربطًا مباشرًا منذ الصغر. اللغة والتطور وفي سياق الحلول المطروحة يرى الدكتور عبد الله التطاوي -أستاذ الأدب العربي ونائب رئيس جامعة القاهرة لشئون خدمة المجتمع- أن ثمة أهمية قصوى لإدراك تطور اللغة على أنها كائن بشري، فمشكلة اللغة الهجين أو المشوهة المنتشرة في أوساط أبنائنا يكمن مضمونها في أن ثمة فريقين أحدهما يريد العودة إلى التقعر والتشدق والوقوف عند ما وصل إليه المجتمع القديم من مفردات وألفاظ، والفريق الآخر يهاجم اللغة وقواعدها ويدعو إلى تركها على عدة أسس لا مجال لها من الصحة، والموازنة هنا مطلوبة فلا بد من مراعاة التطور واستخدام الألفاظ السهلة الميسرة بعيدًا عن التقعّر والمبالغة. فثمة لغة قويمة هذه الأثناء تنتشر بين بعض وسائل الإعلام المحترمة في الفضائيات والصحف، فلماذا لا يتم الاعتماد عليها كمرحلة نحو العودة إلى اللغة الرصينة والمُحكمة؟. ويؤكد الدكتور التطاوي أن إقناع الآباء والأمهات بأهمية اللغة العربية وأهمية تقويمها لدى الأبناء أمر متعلق بالتيسير والثقة بالذات الحضارية. كما يدفع في اتجاه التوصية على ضرورة عودة اهتمام الآباء بمجالس الآباء في مدارس أبنائهم والتشاور مع أعضائها في كيفية تنمية اللغة العربية لدى أبنائهم، حيث قلّ التركيز على تلك المجالس التي كان يخرج الآباء منها قديمًا بخطط وجداول لتنمية مهارات أطفالهم، كما كان من خلالها يتم التواصل بين الأسر بما يعم بالإفادة على الأبناء. ويؤكد الدكتور التطاوي أن بعض الأبناء يظهر لديهم مواهب عديدة متعلقة باللغة كالشعر، الخطابة، الكتابة والتأليف من صغرهم، وتندثر لعدم اهتمام أسرهم بها وعدم الحرص على تنميتها. حل تربوي أما الدكتورة مروة نبيل -أستاذة التربويات بجامعة حلوان- فترى أن تعلق الطفل بالنموذج في حياته وسيلة رائعة لتدشين قواعد وحب اللغة لديه، فدائمًا ما نرى أن المهتمين باللغة كان لديهم مثُل عليا يقتدون بها متمثلة في أشخاص كانوا أيضًا يهتمون باللغة، فإذا أحب الطفل والده وارتبط به أكثر وكان الأب يتحدث لغة سليمة ويحب الشعر وعلوم اللغة، نجد شخصية الطفل تتعلق -بشكل أو بآخر- بنسبة معينة من ذلك الاهتمام. وفي نهاية كلامها تؤكد د. مروة أن على الأسرة مسئولية كبيرة، بل هي في مقدمة المؤسسات المسئولة عن تراجع اللغة العربية لدى الأبناء، ومن بعدها تأتي باقي المؤسسات؛ كالمدرسة ووسائل الإعلام والأندية والبيئة... وأخيرًا.. ستظل اللغة العربية في أجيالنا حبيسة التخلف على شتى المستويات، ولن تعود إلى سابق عزها إلا بالعمل على ارتقاء المكانة الأعلى بين الأمم، والتاريخ يؤكد ذلك؛ فعصور الازدهار والمد الإسلامي الحضاري لم يُرصَد فيها أي مظهر من مظاهر تراجع اللغة مهما تعددت اللغات الأخرى، وصدق المؤرخون حين تنبئوا بسقوط الأندلس مع بداية انهيار اللغة فيها.
|